العنصرية ضد السود (14) : أمّي لا تفضّل لي امرأة خلاسيّة – سلسلة الجدران اللامرئية

العنصرية ضد السود

بقلم: عمرو قدور. نشر فى مجلة الأوان

على عادة الأمّهات؛ يؤرّق أمّي بقائي عازباً، وتعود إلى طرق موضوع الزواج بين الحين والآخر، وأعدها كلَّ مرّة بالامتثال لرغبتها. في إحدى المرّات أشرتُ إلى مذيعة خلاسيّة قائلاً: عندما أعثر على امرأة كهذه سأتزوجّها. ومع أنّ الحديث بدأ من باب الدعابة إلا أنّه اتّخذ منحى جدّيّاً مع استنكار أمّي منّي أن أُعجب بامرأة غير جميلة كالمذيعة المذكورة، رحت أفنّد لها مواطن الجمال في وجه المذيعة، وكانت توافقني الرأي، لكنّها بقيت غير مقتنعة بأنّ مثل هذه الخلاسيّة يمكن لها أن تكون جميلة، لذا أنهت النقاش بما يعبّر عن قناعاتها، وعن سلوكها أيضاًً: الشكل ليس مهمّاً، المهمّ هو التفاهم.
أسوق المثال السابق، وفي جعبة الكثيرين منّا ما يشابهه، للدلالة على عمق المسبقات الثقافيّة التمييزيّة، حتّى لدى أشخاص لا يمارسون سلوكاً تمييزيّاً، بل ربّما كانوا أقرب إلى التعاطف مع المهمَّشين ومناصرتهم، ومثل هؤلاء الأشخاص لا نستطيع محاكمتهم أخلاقيّاً لأنّهم لا يتبنّون أيديولوجيّات عنصريّة، وإن كانوا يتمثّلون في لاوعيهم ثقافة تمييزيّة موروثة ومحدثة في آن واحد. لنعترف في هذا الصدد بأنّ عنصريّتنا مركّبة؛ من جانب لها موروثها، ومن جانب آخر تتماهى مع عنصريّة الأقوى وهو الغرب طبعاً. لا يكفي مثلاً، على أهميّة الحدث، أن ينتخب الأمريكان رئيساً من أصول أفريقيّة لكي نقول إنّ الثقافة الأمريكية تخلّصت من شوائبها العنصريّة، ولو كان الأمر كذلك لما نوّهنا بانتخاب رئيس أسود، ولمرّ الأمر بلا انتباه.
لنعد إلى معايير الجمال المهيمنة؛ أليست جزءاً هامّاً من الثقافة؟ ماذا لو تفحّصنا قائمة عارضات الأزياء الشهيرات “السوبر موديل”؟ كم زنجيّة أو خلاسيّة سنعثر عليها في القائمة؟ ألم تكن نعومي كامبل استثناءً؟ لنأخذ أيضاً قائمة ملكات الجمال؛ أهناك من يتذكّر انتخاب ملكة جمال زنجيّة؟ لا أعتقد أنّ هذا قد حدث حتى الآن. لنستذكر نجمات هوليود الشهيرات، أتوجد بينهنّ فنّانة زنجيّة؟ أيضاً ستكون الإجابة بالنفي. أما على الصعيد الإعلاميّ فتكاد أوبرا وينفري أن تكون ظاهرة لا مثيل لها. وأخيراً أليست المعطيات السابقة جزءاً من ثقافتنا أيضاً؟ أم أنّ هناك من يتوهّم وجود ثقافة عربيّة أو إسلاميّة خالصة وبمنأى عن تأثيرات الآخر؟!
ليس من شأن الأسئلة السابقة أن تحمّل الغرب وزر عنصريّتنا كاملاً، لكنّ هذا لا يعفينا من تفحّص المؤثّرات الثقافيّة مجتمعةً، بما فيها استلابنا الثقافيّ أمام الغرب، مع تأخّرنا الدائم في تلقّي المؤثّرات، وأحياناً المؤثّرات التي يكون الغرب قد تجاوزها فعلاً، أو بصدد مراجعتها. ولعل ما يدلّنا على عمق الاستلاب التشديد المتواصل على مفهوم الهويّة، فلو لم تكن الهويّة بمفهوم العصبويين مهدَّدة لما كان التشديد على صونها من الآخر. أن يكون الغرب قد تخلّص قانونيّاً من تبعات العنصريّة والتمييز فهذا شأن يخصّ المواطن الغربيّ، وقد تتأخّر تأثيراته في الوصول إلينا، أما الظواهر الثقافيّة الغربيّة المعمَّمة، أي تلك التي يتلقّاها عموم الناس عبر الإعلام، فلا تزال تحت هيمنة النموذج الأبيض، ولم ترتقِ بعد إلى عتبة القوانين المعمول بها في بعض الدول الغربيّة.
يساعدنا في عنصريّتنا أنّنا، سكّان المتوسط، أقوام تقع بين حدّي الأسود والأبيض؛ فمن جهة يساورنا نوع من الاستعلاء تجاه الجنوب الأسود، وهو استعلاء كان يجد مبرّرات حضاريّة إلى عهد قريب، ومن جهة أخرى نسعى إلى تمثّل الأكثر بياضاً، أو الأشقر، وهذه عقدة نقص تاريخيّة لدينا تجاه الشمال/الغرب المتفوّق حضاريّاً منذ قرون. نحن أبناء الشمال والجنوب معاً، وهذا المركّب يسهّل علينا تعريف ذواتنا بالانحياز إلى الجهة الأقوى، ويعفينا من تبعات موقع المهمَّش الفعليّ. معركتنا المستمرّة ما تزال هي إثبات الذات، وما تزال في طور إثباتها كمقلوب عن الآخر ومتعالٍ عليه، فلم نصل إلى الذات الناضجة التي ترى نفسها في تكاملها مع الآخر. كأنّ الجغرافيا بدورها تفاضليّة، فيتمايز منها من هو أبعد شمالاً؛ تمايز نراه في أوربا ذاتها، وفي البلد نفسه أحياناً كما يميّز طليان الشمال الثريّ أنفسهم من طليان الجنوب الفقير. في هذا السياق أستذكر إيطاليّة عرفتها قبل سنوات، سألتها بسبب سمرة بشرتها عمّا إذا كانت من الجنوب، فبدت مستاءة من سؤالي وأجابت بترفّع إنّها من الشمال، قلت لها إنني بالمقارنة معها من جنوب الجنوب، فاعتذرت منّي بشدّة وقالت إنني لست معنيّاً بكلامها لأنني لست إيطاليّاً!
ممّا يبعث على الدهشة، ويستدعي التأمل، أنّ ثقافتنا تزخر بمديح السُمرة والعيون السوداء، بينما تتّجه الممارسة الفعليّة إلى تفضيل الأكثر بياضاً والعيون الزرقاء متى أتيح ذلك. أغانينا بغالبيّتها تتغزّل بالحبيبة السمراء، وأشعارنا كذلك، وعند محكّ الاختيار يذهب البحث إلى البيضاء أو الشقراء إن أمكن، فكيف يستقيم التغنّي بنموذج جماليّ ما وتفضيل نموذج آخر عليه في الوقت نفسه؟ ثم إنّ الممارسة التمييزيّة في مجتمعاتنا، بسبب افتقارها إلى الزنوجة، تتمّ بحدّة أقلّ، لكنّها ليست بلا آثار عميقة أو مستديمة خاصّة على صعيد المعايير الجماليّة المطلوبة من المرأة. تستطيع المرأة السمراء في مجتمعاتنا أن تدندن لنفسها بكلّ الأغاني التي تتغزّل بسمرتها، وأن تتمتّع بهذه الثقة أمام المرآة، لكنّها في مواجهة الواقع ستجد نفسها مقصيّة لصالح الأكثر بياضاً، وعليها أن تبذل جهداً مضاعفاً لتثبت أنّها على قدم المساواة مع قرينتها البيضاء المحظوظة. بل عليها أن تحاول باستمرار أن تصبح أكثر بياضاً، ولنا في كميّة المستحضرات التي تُستهلك من أجل تبييض البشرة معيارٌ على مكابدة أولئك النسوة. وإذا استدللنا بالملاحظة العيانيّة سنجد نسبة أكبر من النساء البيض اللواتي اكتفين بما وهبته إيّاهنّ الطبيعة، ولم يبذلن الجهد الذي تبذله نظيراتهنّ السمراوات، وهذا لا ينسحب على العناية بالجسد تحديداً، وإنما يمتدّ ليشمل مناحي مختلفة بما فيها التحصيل العلميّ أحياناً. لقد أدّى هذا حتّى إلى ظلم البيضاوات، إذ باتت شريحة من المجتمع تنظر إليهنّ بنمطيّة على أنّهن أقلّ ذكاء أو مقدرة، أو على أنّهن مجرد شكل فارغ من المحتوى.
ربّما كانت عقدة النقص الحضاريّة تدفعنا إلى تمثّل الأسوأ قي موروثنا، والأسوأ في الثقافة العالميّة المعاصرة؛ موقع الضعف الذي نستقرّ فيه الآن يدفعنا إلى توسّل الماضي الإمبراطوريّ الإسلاميّ، بكلّ ما فيه من قهر لشعوب أخرى، بما في ذلك ظاهرة الرقيق والجواري والخصيان التي تزخر بها كتب العصر الإمبراطوريّ الذهبيّ. يلاقي هذا التوق ما نشهده من نرجسيّة للغرب وتمركزه حول ذاته، وكأنّ الغرب تسيّد موقعاً نحن الأولى به، لذا يكون تعارضنا مع الغرب صراعاً على الأحقّيّة، وفي الوقت الذي نشجب فيه النموذج الغربيّ فإنّ أسوأ ما في هذا النموذج يغلّ في وعينا، بل يحظى بالتقدير. قبل سنوات اكتسحت دمية باربي العالم، صارت باربي هي النموذج الذي يجدر بالمرأة أن تصل إليه، ومن المفارقات أنّ الإيرانيين صنعوا دمية مضادّة، بمواصفات إسلاميّة طبعاً، لكنّ أحداً لم يكترث بهذه الدمية المحجّبة، بقيت باربي إلى أن استنزفت زمنها كأيّة موضة أخرى، وخسر الإسلاميّون تلك المنازلة الجماليّة حتّى في ديارهم.
إن تفحّص موقع المأزوم لا يعني بأيّة حال أن نلتمس لأنفسنا الأعذار، مثلما لا تعني الإشارة إلى الشوائب العنصريّة في الثقافة الغربيّة عزاءً لنا نحن الأكثر تخلّفاً، والحقّ إننا نحكم على أنفسنا بالتخلّف إن لم نواكب الجهد الذي بدأه الغرب منذ نصف قرن في مراجعة وتفنيد المركزيّة الأوربيّة. صحيح أنّ هذا الجهد لم يؤت ثماره تماماً، وهذا أدعى إلى ملاقاته بالمزيد من التكامل الحضاريّ، حينها قد يكون من حسن حظنا أننا لسنا بيضاً تماماً، وأننا لا نسعى إلى أن نصبح كذلك. لعلّ الجغرافيا وضعتنا في موقع تلك الخلاسيّة التي أعود فأعبّر عن إعجابي بها، وأروع ما فيها أنها تجاوزت نقاء الأسود والأبيض.

العنصرية ضد السود (13) : في النظر إلى أزمة دارفور: هل ما أصابنا ازدواجية معايير أم مس من العنصرية؟ – سلسلة الجدران اللامرئية

العنصرية ضد السود

بقلم: رجب سعد طه. نشر فى مجلة الأوان

منذ عدّة أعوام كتب صحفي أمريكي يدعو إلى إرسال عدة طائرات لتقوم بنقل جثث مئات الضحايا من دارفور إلى الأمم المتحدة، ودفنهم في واحدة من الولايات الأمريكية “تذكيرًا بلامبالاة العالم، وللتذكير بأنّها أوّل إبادة جماعية وقعت في القرن الواحد والعشرين”! وإمعانًا في السخرية طالب الصحفي في مقاله بـ “تذكير العرب بأنّ قتل مئات الآلاف من المسلمين في دارفور يتطلّب الاحتجاج أيضًا”.
ربّما لا يعلم الصحفيّ أنّ الكثير من المسلمين قد يجهلون أنّ المدنيين الذين تساقطوا (وما زالوا يتساقطون) منذ بداية النزاع المسلَّح المستمر بين المتمرّدين والميليشيات المدعومة من الحكومة السودانية، هم من المسلمين. إنّ أهل دارفور – الذين قد يصفهم لك أيّ سائق تاكسي يعتمد في معلوماته على نشرات المقاهي الإخبارية، وهو يهزّ كتفيه في لامبالاة بأسوأ النعوت، قبل أن يفسِّر ذلك ببساطة متناهية، وهو يتذكّر بشرتهم السوداء الداكنة، بأنّهم “وثنيون عملاء” – هم في الواقع من أكثر أهل السودان احتفاءً بالقرآن ورعاية وحفظًا لـه؛ حيث تنتشر في ربوع دارفور بيوت القرآن المسمّاة بالخلاوي، والتي دأب الدارفوريون على تكريم خريجيها من حفظة القرآن، بدءًا من إغداقه بالمال وحتى تزويجه بواحدة أو أكثر، بل إنهم لا يطلبون مهرًا من حافظ للقرآن.
لم تصل بعد المجتمعات العربية والإسلامية إلى مرحلة من التطوّر الإنسانيّ، تدفعها إلى التعاطف مع أصحاب الألم والمعاناة، بغضّ النظر عن اختلاف الدين أو الجنس. ورغم ذلك فإنّ تقارير المنظمات الحقوقية التي رصدت سفك دماء المسلمين، وتشريد مئات الألوف منهم واغتصاب بناتهم في دارفور، لم تطرف لها أجفان الحكام والشعوب في الدول العربية والإسلامية، ولو حتى بمظاهرة تطالب بمحاسبة وعقاب المسئول عن الكارثة الإنسانية المتفاقمة هناك، وهذا أضعف الإيمان. المظاهرات الوحيدة التي خرجت كانت تسبّح بحمد النظام الحاكم في السودان وتستعيذ بالله من الشيطان الدوليّ أوكامبو.
قد لا يستطيع البعض أن يعتب على العرب والمسلمين عدم اكتراثهم بالأزمات الإنسانية التي يعاني منها غيرهم؛ بزعم عدم امتلاكهم رفاهية شعوب وحكومات دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا الشمالية، فلديهم من المشكلات القدر الذي يفيض عن حاجتهم. همجية الجيش الصهيوني في الأراضي المحتلة في فلسطين، مستقبل غامض في العراق تصبغه المجازر اليومية بلون الدم، المقاومة والدولة في لبنان، ومَن قتل مَن في أفغانستان؟!
لكن هل يشفع هذا التعامل لسنوات بدم بارد مع معاناة أهل دارفور من النزوح والجوع والمرض والقتل والاغتصاب، وتجنيد الأطفال للقتال في صفوف الميليشيات. إن أهلنا في دارفور يحتاجون منا لاستنفار الطاقات، وتنظيم المظاهرات، والمؤتمرات، وجمع التبرعات، كما فعلنا مع إخواننا في لبنان وفلسطين. لكن يبدو أنه كتب على أهل دارفور أن يكونوا في معاناتهم محرومين من تضامن الشعوب العربية والإسلامية.
هل ستغدو مجازفة منا لو حلمنا بمطالعة خبر صحفي عن الإعداد لدويتو أو أوبريت لمساندة أهل دارفور؟ هل سيسعدنا الحظّ بمشاهدة فيديو كليب يبكي ضحايا دارفور؟ أم أنّ الأجساد الهزيلة المعدمة ذات البشرة الداكنة التي ينهشها الفقر والتجاهل والمرض، لا تستحقّ من فنانينا الكرام إقامة المؤتمرات الشعبية، والتنديد، وقرض الشعر، وذرف الدموع أمام شاشات الفضائيات؟!
كتب الأستاذ فهمي هويدي في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 5 يوليو 2006 في مقاله سنة العار: “ينبغي ألا نتوقع من الآخرين أن يدافعوا عن حقوقنا أو كرامتنا التي تخاذلنا عن الدفاع عنها. لكن ذلك لا ينسينا أنّ الضمير العامّ في تلك المجتمعات الذي استثاره الحاصل في دارفور، واهتزّ لما جرى في رواندا. قد أصيب بالسكتة غير البريئة حين تعلق الأمر بالعرب والمسلمين (من فلسطين إلى شيشنيا)”.
بالفعل لا يستطيع أحد أن يشكّك في ازدواجية المعايير التي يعاني منها المستضعفون في الأرض من المجتمع الدولي، عربًا كانوا أم من غير العرب. لكن ما ذنب دارفور وأهلها؟ هل يؤثمون على الاهتمام بهم وعلى الجهود التي تبذل لوقف الجرائم المتصاعدة ضدهم؟!
إن عدوى ازدواجية المعايير قد أصابت العرب لاشكّ، وكما نرى فإنّ التعليق المكتوب منذ سنوات، والذي يتمّ استنساخ مضمونه بطرائق مختلفة في الإعلام العربي حتى الآن، على اهتمام المجتمع الدولي بكارثة دارفور الإنسانية، قد صيغ بطريقة قد يفهم منها استثناء أهل دارفور من زمرة المسلمين! إن إدانتنا لصمت المجتمع الدولي إزاء جرائم ترتكب بحق إخواننا في فلسطين ولبنان والعراق، يجب ألا تقل بحالٍ من الأحوال، عن إدانتنا لصمت الأقلام العربية والإسلامية (غير البريء) عما يجري لأهلنا في دارفور.
قارنوا في هذا الإطار بين الاحتفاء العربي بالبيان المنفرد الذي أصدره ماركيز منذ سنوات إعجابا بالصمود الفلسطيني وبغضا للصهيونية، وبين التجاهل الذي حظي به مقال سونيكا الذي كتب فيه عن تخريب حكومة السودان للجهود الدولية لمساعدة وحماية ضحايا النزاع، كما يمكنكم المقارنة بين الاهتمام البالغ بتحليل وتفسير ونقد قرارات مجلس الأمن المتعلقة بفلسطين، وبين الجهل المطبق بالقرارات المتعلقة بدارفور.
تتباين الإحصاءات التي تتناول عدد ضحايا دارفور، وأدناها رقم ضخم لا يحتمل أي ضمير حي تجاوزه، لكن كل هؤلاء الضحايا والمنكوبين لم يحركوا مشاعر الذين سكتوا طوال السنوات الماضية متجاهلين ما يدور في غرب السودان، لكنّ الذي دفعهم للحركة والنشاط والانفعال والكتابة، هو توجيه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس أوكامبو الاتهام لرئيس السودان عمر البشير بالتورط في جرائم حرب ارتكبت في دارفور، وطلب اعتقاله ومحاكمته، بينما وصف واحد من جوقة الدفاع عن البشير، أزمة دارفور بالتافهة ورأيه أنها لم تكن تستحق كل هذا الضجيج. إنهم يبكون المتهم الذي لم يستطع تبرئة ساحته، وينسون الضحايا.
ومن المفارقات الكامنة في خطاب المناهضين للمحكمة الجنائية الدولية ولمدعيها العام، أنهم في حين يصرون على رفض محاكمة الحكام العرب أمامها، يطالبون، في ذات الوقت، بمحاكمات عاجلة لمجرمي الحرب الإسرائيليين، ويزعمون أنهم بدؤوا الإعداد لحملة قانونية قوية لإحالة مرتكبي جرائم الحرب في حرب إسرائيل الأخيرة على غزة إلي المحكمة الجنائية الدولية. يرفضون قرارات المحكمة وينعتونها بخدمة أجندة المصالح الأمريكية المعادية لنظام السودان المقاوم والممانع، ويطالبون بإحالة مجرمي الحرب الإسرائيليين إليها، أي منطق يحكم هذا الخطاب؟!
يبدو أنّ أزمة أهل دارفور لن تجذب اهتمام المواطنين العرب وقنواتهم الإعلامية، إلا لو كان المسؤول عن جرائم الحرب هناك هو الجيش والميليشيات الإسرائيلية، وليست السودانية. فينبغي أن تكون قضية ضحايا دارفور هي قضية تحرر وطني ومقاومة ضد المحتلّ الأجنبي الغاصب، حتى تأخذ حقها من الانتباه والتآزر مع أصحابها؛ فلا مكان للدفاع عن المدنيين في ظل النزاعات المسلحة داخل أراضينا العربية والإسلامية. خاصة لو كانت الأطراف المسؤولة تُعلن إسلاميتها على الملأ، وتتشدق دومًا بتبنيها لأجندات المقاومات. لكن الإجابة التي قد تكون أكثر إيلامًا، هي أن معاناة السود عندنا لا يمكن مساواتها بمعاناة البيض، حتى لو جاوزت أعداد الضحايا الداكنين أضعاف ما وقع في أزمات أخرى.
في ندوة عُقدت في الفترة الأخيرة عقب العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة، دار النقاش بين عدد من النشطاء الحقوقيين العرب عن إمكانية تحويل مجرمي الحرب في غزة وفي دارفور إلى المحاكمات الدولية. وبعيدًا عن السجالات القانونية المتوقعة، كان لأحد أبرز الحقوقيين المتحدثين موقفًا له دلالاته الموجعة. حيث رفض بشدة الربط بين أزمتي غزة ودارفور، بشكل بدا منه وكأنه يعتقد أن الاقتصاص لضحايا غزة لن يتم دون تجاهل ضحايا دارفور الذين يتبرأ منهم الجميع، حتى جاء اليوم الذي نكتشف فيه تنصل بعض المدافعين عن حقوق الإنسان من مؤازرتهم.
إنه جدار جديد لم يكن مرئيًا.

العنصرية ضد السود (12) : السود في تونس: الإرث الثقيل وسلطة اللون الواحد – سلسلة الجدران اللامرئية

العنصرية ضد السود

بقلم: محمد سفينة. نشر فى مجلة الأوان

التمييز ضدّ أصحاب البشرة السوداء في المجتمع التونسي، جرح ينزف في صمت لم يندمل رغم عديد التغيرات الاجتماعية والثقافية ومظاهر الانفتاح التي يشهدها المجتمع… نظرة دونية يبطنها البعض ويتجاهر بها البعض الآخر ولا تخلو من التحقير في أغلب الأحيان…
– ألسنا نقول” سوّد الله وجهك لمن نغضب منه؟!

– أليس أهل النار سودا وأهل الجنّة، كلّهم، بيضا في مخيالنا الشعبيّ… أمثلة وتعبيرات عديدة ساكنة فينا من بقايا عصور العبودية والانحطاط، في مجتمع نتبجّح بالقول عنه إنه متفتح ومنفتح ومتسامح… وهلم جرّا من المصطلحات الفضفاضة الخالية من معانيها الحقيقية..
هكذا نرى ونتعامل مع السود الذين يمثلون جزءا هامّا من نسيجنا الاجتماعي والثقافي ومن تاريخنا “الأسود
”.

السود وإرث العبودية الثقيل:
في جانفي 1846 تمّ في تونس إلغاء الرقّ من طرف المشير أحمد باشا باي حاكم الإيالة التونسية تحت ضغوط أروبية كان الهدف من ورائها إلغاء استعباد أسرى القرصنة البحرية من الأوروبيين، وهو ما مفاده أنّ السود في تونس لم يكونوا هم المستهدفين من هذا القانون، ولكنهم استفادوا منه رغم أنه لم يلغ واقع العبودية بالنسبة إليهم، إذ تواصلت لعدة عقود بعد هذا القرار، خاصّة في مناطق واحات الجنوب حيث استوطنت أعداد كبيرة من السود، الذين تمّ جلبهم منذ الفترة الوسيطة من مناطق جنوب الصحراء لاستغلالهم كعبيد وخدم، حيث أنّ امتلاك العبيد والخدم السود كان نوعا من الوجاهة الاجتماعية.

وحتى بعد أن تمّ القضاء نهائيا على العبودية فإنّ رواسب تلك الفترة قد ظلّت سارية في ظلّ نظام اجتماعيّ بقي وفيّا للماضي، حيث بقي الأسود يلقّب بالعبد والخادم حتى وهو حرّ، كما أخذ الكثير من السود أسماء وألقاب مالكيهم السابقين وبذلك بقوا يحملون إرثهم العبوديّ في مجتمع، لا يزال إلى حدّ الآن في كثير من المناطق، يرفض المساواة، بل ويصرّح بها ويفصل بين الأبيض ( الحرّ) والأسود (العبد) حيث أنّ الثقافة اليومية المتداولة، وجملة الرموز التي يتناقلها الناس في معاشهم اليوميّ، لا زالت تحتفظ ببقايا هذا التمييز، وذلك باستعمال مصطلحات وصفات من القاموس اللوني الذي يتمّ تلطيفه لإصباغه بمشروعية أخلاقية تجيز له التصريح.

وفي هذا المنحى يقول الأستاذ هشام الحاجّي، المختص في علم الاجتماع، أنّ “هذا التمييز يعود بالأساس إلى أسباب ثقافية، إذ أنّ هناك رغبة مجتمعية لاواعية للحفاظ على التجانس اللونيّ خاصّة وأنّ الثقافة التقليدية، التي لا تزال فاعلة في جوهرها، ثقافة هرمية تقوم على الثنائيات وتستعيد بشكل من الأشكال ثنائية السيد والعبد، وهذا التمييز وظّفته الثقافة الشعبية للحفاظ على هذه الهرمية من ناحية، ولمنع كلّ حراك من شأنه أن يهدّد أسسها ويدعو إلى تغييرها.

وفي اتصال بالواقع اليومي المعيش، تحدّث الشابّ حسن حنزولي وهو أصيل مدينة مارث بالجنوب التونسي عن مسألة التمييز فقال إنّ المسألة تظلّ معنوية بالأساس، إذ تحسّها من خلال الحركات والكلمات التي تبدو بسيطة وعادية بالنسبة للبعض ولكنها غير ذلك، حيث تنعت دوما “’ بالوصيف” أو ’ الكحلوش ” وبالتالي فإنّك أقلّ قيمة من الأبيض، خاصّة في الجنوب، حيث العلاقة هي علاقة عمودية بين الأبيض والأسود نظرا للعلاقة القديمة المتّصلة بأفضلية الأبيض عن الأسود وبسلطته عليه في السابق.

الدولة الحديثة وأحادية اللون:
بقيت دولة الاستقلال في تونس على مدى عقود من الزمن رهينة الحزب الواحد خاصّة في عهد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، وهي الآن بعد أكثر من خمسين سنة من إعلان الجمهورية التي لا تقيم تشريعاتها أيّ تمييز على أساس لون البشرة، سواء من زاوية التمتع بالحقوق المدنية والاقتصادية أو الاجتماعية أو من زاوية الإفادة من الحقوق السياسية، تصويتا أو ترشيحا أو تبوّءا للمسؤوليات المتقدمة بأجهزة الدولة، قد بقيت رهينة اللون الواحد، رغم أنّ نسبة السكان ذوي البشرة السوداء هي في حدود العشرة بالمائة، ليبقى السود مغيّبين عن المناصب العليا في الدولة، حيث لم يسبق أن تقلّد أيّ أسود منصبا وزاريا، كما لم يدخل تحت قبة البرلمان أيّ نائب أسود كما لم يسجّل العنصر الأسود في قائمة السفراء إلا في مناسبتين اثنتين على مدى خمسين سنة.

وفي حادثة ضمن هذا السياق وقع في أوائل ثمانينات القرن الماضي تعيين مسؤول جهوي (معتمد) أسود في إحدى مدن الجنوب، حيث تمّ طرده قبل أن يباشر مهامه من طرف إحدى الشخصيات النافذة من أصدقاء الزعيم الراحل بورقيبة، بسبب لونه، إذ أنه من غير المنطقي ومن غير المعقول – حسب السائد – اجتماعيا أن يتم تعيين مسؤول ذي بشرة سوداء في منطقة تابعة لنفوذه.

وبهذا يبقى السود خارج فضاء السلطة نتيجة لمجتمع يرفض ارتقاء الأسود الموسوم بالدونية لدى البعض، ويرجع الدكتور مهدي المبروك، المختصّ في علم الاجتماع،هذا الإقصاء إلى “اللامساواة الاجتماعية وإلى تراث التهميش الذي تعرّض له هؤلاء لعدّة قرون، والذي منعهم من التدارك الاجتماعي في الدولة الوطنية الحديثة، وذلك ما يجعل
حظّهم في إفراز النخب السياسية العليا بالأساس قليلا ومنعدما ويحتاج إلى الكثير من الوقت لكي يتحقق”.

الزواج المختلط، حصن التمييز المنيع:
لئن يعتبر السود جزءا من النسيج المجتمعي التونسي، فإنّ الزيجات المختلطة لا تزال تعتبر من الحالات النادرة، وخاصّة منها زواج الأبيض من سوداء، والمجتمع التونسي هنا لا يختلف عن بقية المجتمعات التقليدية، إذ أنه وإن كان يستبطن ريبته من المختلف في الدين أو في العرق، فإنّه يعلنها صراحة في مسألة الزواج فهو لا يستسيغ هذه العلاقة، بل يرفضها صراحة. فالزواج هو القلعة الحصينة التي تأوي إليها ثقافة التمييز وتتحصن وراءها، خاصّة أنّ علاقات النسب والمصاهرة هي أكثر العلاقات التي تبرز الرغبة في الحفاظ على النسق والنمط الاجتماعي القائمين، وذلك بالنظر إلى الأهمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمؤسسة الزواج كعملية إنتاج مجتمعيّ وإعادة إنتاجه.

ولا شك أنّ عوائق عديدة تبقى قائمة في ما يتعلّق بالزواج بين السود والبيض، فالمجتمع التونسي كمجتمع تقليديّ لا يعتبر الزواج مسألة شخصية، بل يوظّف هذه المؤسّسة ضمن إستراتيجيته المجتمعية، وهو ما يتجلى في تبخيس قيمة الحبّ وكلّ الاعتبارات الذاتية عند الاختيار.
وفي هذا الإطار تحدّثت السيدة ريم الحمروني، وهي ممثّلة مسرحية تونسية، سوداء البشرة ومتزوجة من رجل أبيض، عن تجربتها التي اعتبرتها تجربة شاقّة وقاسية، خاصّة في مرحلة الزواج الأولى، من خلال نظرة الاستغراب والاستهجان التي كانت تحسّها في نظرات الآخرين، واعتبار زوجها بمثابة المسكين المتزوج من “وصيفة”.

وأمام هذا الصدّ الاجتماعيّ الرافض للزواج المختلط، قال الشابّ رضا –ب (صحفي): “لن أتزوّج من بيضاء حتى أكون رجلا أمام نفسي، بالمعنى الاجتماعي للكلمة، ولكي لا أحسّ يوما بالنقص أمام زوجتي… أقول هذا من خلال معرفتي بالمجتمع التونسيّ الذي يرى أنّ الأسود غير لائق بالمرأة البيضاء، وغير مرادف لها مهما كان مستواه الثقافيّ والمعرفيّ والماديّ”.

هذا الرأي يرجعه الدكتور مهدي المبروك إلى التنشئة الاجتماعية وإلى التربية على الخوف والرهاب من الآخر، في مجتمع ينظر إلى الآخر، المختلف في العرق، بدونية وتحقير ولا يرجع فشل العلاقات المختلطة إلا إلى الأسباب اللونية.

ملاك زوايدي فتاة سمراء ذات جمال وثقافة محترمين، ترى أنّ الشابّ الأبيض لا ينظر إلى الفتاة السمراء إلا من خلال عين الشهوة (جسد وجمال مختلفان)، ومن خلال الرغبة في التشكيل اللونيّ، وتقول في هذا الشأن : “منذ صغري كانت أمي توصيني بأن أحافظ على” قشرتي“ليقينها بأنّ الأبيض لا ينظر إلى السوداء إلا بنظرة الشهوة والنزوة العابرة، وللأسف الشديد وجدت أنّها محقّة في ذلك من خلال معايشتي للواقع”.
ومن جهة مقابلة تقول شادية غ، وهي فتاة بيضاء أصيلة إحدى مدن الجنوب التونسي أنّ زواج البيضاء من أسود خاصّة في الجنوب التونسي، هو ضرب من المستحيل ومجلبة للعار لها ولأهلها، فلا تتزوّج من أسود إلا ذات السمعة السيّئة، ومن تقدم بها العمر، واليائسة من الزواج بأبيض.

ومع هذا فإنّ كلّ هذه العوائق والحواجز لم تمنع من وجود عديد التجارب الثنائية الناجحة التي آمنت بقيمة إنسانية ثابتة، وهي قيمة الحبّ التي تبقى قادرة على كسر كلّ القيود والحواجز المجتمعية البائسة.
وهنا فإنّ النخب والفاعلين الثقافيين مدعوّون للتعامل مع بقايا الثقافة التقليدية، من أجل تغييرها، حتى تبرز قيم المساواة الأنطولوجية بين الناس بعيدا عن دينهم أو لونهم أو عرقهم.